وضع إستراتيجية أمنية مفيدة، مرتبطة إلى حدٍ كبير بوجهة نظرنا، أمر يقتضي تحديد المخاطر والتهديدات وتحليلها. لكي نتمكن من الاستعانة، بالطرق والوسائل المناسبة التي تساعدنا على تفادي هذه التهديدات والمخاطر أو تقليص حدّتها. إلّا أن كل شخص فينا ينظر إلى العالم المحيط به من وجهة مختلفة، وفقًا للظروف والتجارب التي يخوضها، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة. لذلك، قد تكون بصيرتنا محجوبة في بعض الأحيان. بعض التهديدات مثلاً واضحة وجليّة للبعض، وغير موجودة أو مخفية للبعض الآخر. يجب كذلك، أن نكون قادرين على التفريق بين التهديدات الممكنة فعلاً، وتلك التي نظنّها تهديدات بناءً على وجهة نظر خاطئة، وهي مخاوف لا أساس لها من الصحة. لهذا السبب، يستحسن التعرّف إلى العوامل التي تؤثر على نظرتنا للتهديدات. والتفكير في طرق تساعدنا، عند وضع الخطط الأمنية لأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار.

ردود الفعل المبنية على الحدس وغريزة البقاء

في داخل كل واحدٍ منّا آليات حماية طبيعية، نشأت وتطورت مع تطور الجنس البشري على مدى الأزمان والعصور.  ويعمل عدد لا بأس به من تلك الآليات، حتى من دون أن ندري أو نلاحظ. الحدس مثلاً، هو إحداها. حين يقول لنا حدسنا أننا نواجه خطرًا ما أو شخصًا ما لا يمكن الوثوق به، يكون سبب ذلك في أغلب الأحيان، أننا لاحظنا مؤشرات خفية متعددة، لا يمكن لكل واحدٍ منها وحده أن يدل على تهديد معيّن ولكنها مجتمعة توحي بوجود خطرٍ ما. وغالبًا ما ينتج عن هذا الحدس شعور بالتوتر يدفعنا إما إلى الدفاع عن أنفسنا بشكلٍ مباشر، وإما إلى البحث عن المزيد من المعلومات للتأكد من أننا في خطر.

وبناءً على ما نكتشفه، قد يتحوّل هذا التوتر إلى شعورٍ بالخوف، ما يؤدي إلى رد أو ردود فعل تستند إلى غريزة البقاء لدينا. ردود الفعل الغريزية هذه، كالتمسمر في مكاننا، أو الهروب أو الاستعداد أو القتال وغيرها، تنطلق حين نشعر بأننا نواجه خطراً محدقًا وبعد ذلك يصبح سلوكنا تلقائيًا ونصبح أقل قدرةً على التحكم به. فنصير أقوى وأسرع وأكثر قدرة على التركيز من ما نحن عليه عادةً. نتيجة لذلك، تعتبر إستراتيجيات البقاء ذات فعالية كبيرة جدًا في ظروف كثيرة. ولكنها ليست مفيدة في جميع الحالات. فلا بد لنا أن ندرك أننا غير قادرين على السيطرة على ردود فعلنا دائمًا في وجه الأخطار المحدقة، وعلينا أن نتوخى الحذر حين نلوم أنفسنا أو الآخرين بسبب كيفية تصرفنا في مثل هذه الحالات.

الفضاء الرقمي

حتى في بداية عملية وضع وتطوير مقاربتك المنظمة لمسألة الأمن، يجب أن تعرف أن آليات الحماية الطبيعية الخاصة بك فعّالة  عند حمايتك من المخاطر. ولكن في حالات معينة لا يمكن الوثوق بحدسنا وعلينا توخي الحيطة والحذر. الفضاء الرقمي – أي أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة والأجهزة الأخرى، والنظم التي تساعدها على التواصل في ما بينها –  متداخل في أحيانٍ كثيرة مع حياتنا خارج شبكة الإنترنت. ولكن قدراتنا على رصد التهديدات الرقمية ما زالت ضعيفة، مقارنة بقدراتنا على رصد التهديدات المادية. غالبًا ما تتم عمليات المراقبة والتحرّش عبر الإنترنت والهواتف المحمولة بسرية تامة، ومن الصعب جدًا ملاحظتها أو منعها أو ملاحقة مرتكبيها قانونيًا. غالبًا ما نعجز عن رصد هذه التهديدات، أو بالعكس نشعر بتهديدات غير موجودة فعليًا.

لنتمكن من رصد هذه التهديدات والتخطيط لمواجهتها بشكلٍ أفضل، لا بد لنا أن نسعى لفهم كيفية عمل التكنولوجيا، خصوصاً التي نستخدمها في حياتنا اليومية بشكلٍ معمّق. وبما أن المدافعين عن حقوق الإنسان معرّضين لوسائل مراقبة إلكترونية متطورة أكثر من العادة، وبما أنهم صاروا يعتمدون بشكلٍ متزايد على أدوات رقمية للقيام بعملهم، لا بد لنا أن ندرك أن معلوماتنا قيّمة جدًا وأن نفهمها بشكلٍ معمق: كيفية تخزينها ومواقع التخزين، ومن لديه القدرة على الوصول إليها. متسلحين بهذه المعرفة، يمكننا اتخاذ الخطوات اللازمة لحماية معلوماتنا واتصالاتنا.

الصدمات والإجهاد والإرهاق

ختامًا، قد تؤثر الصدمات والإجهاد والإرهاق على وجهات نظرنا، وبالتالي على قدرتنا على تحديد التهديدات والتعامل معها. في حال تعرضنا لأحداث مزعجة أو صادمة إلى حدٍ كبير، قد يصبح تعاملنا مع الخطر مرتبكًا ومشوشًا أيضًا. وقد ينتج عن ذلك، ردود فعل في غير مكانها، أي أننا قد نستشعر مخاطر غير موجودة، أو قد يؤدي الإرهاق الذهني نتيجة صدمة ما إلى فقداننا القدرة على التنبه لمثل هذه التفاصيل، وإلى عجزنا عن رصد المخاطر الحقيقية الآنية.

الأمر سيّان بالنسبة للإجهاد والإرهاق، فهما أيضًا مؤثران على قدرتنا على رصد مستوى التهديدات المحيطة بنا بشكلٍ منطقي وواقعيّ. تساعدنا المحافظة على التوازن في حياتنا بين العمل والراحة والقبول بكمّ معقول من العمل، وبعدد معقول من الالتزامات في تفادي الإرهاق والإجهاد.

لا بد من وجود كمّ معيّن من الإجهاد في حياتنا، وهذا طبيعيّ لا بل صحيّ، فمن شأن ذلك أن يجنبنا الملل أو الاكتئاب. ولكن، على الرغم من أننا قادرون على تحمّل مستويات عالية من الإجهاد لفترات زمنية قصيرة، قد نشعر بالعجز ونستسلم في حال استمر مستوى الإجهاد على هذا النحو. وقد يجعلنا ذلك عرضة للخوف والتوتر بدايةً ومن ثمّ عرضة لليأس أو حتى الاكتئاب.

نتيجةً لذلك، لا بد من وضع وتطوير ثقافة (على الصعيد الفردي والجماعي في منظمة أو حركة) خاصة بإدارة الإجهاد والرعاية الذاتية كأساس لمقاربة أمنية شاملة. لن يساعد ذلك في الوقاية من التهديدات الناتجة من التعرض للإجهاد والإرهاق لفترات طويلة فحسب، بل أيضًا سيشكّل داعمًا أساسيًا في عملية التفكير النقدي في مسألة الأمن بشكلٍ عام.

التمرينان اللاحقان يتيحان لنا الفرصة للتفكير في تجاربنا. مع الأخذ في عين الاعتبار كيف نظرنا إلى التهديدات وكيف تعاملنا معها في السابق، إلى جانب التفكير في مدى استمرار تأثير الأحداث الصادمة على نظرتنا للخطر في الحاضر. لذا رفع مستوى الوعي تجاه هذه المسائل يسهّل عملية وضع تكتيكات تساعد على الحفاظ على وجهات نظر منطقية في المستقبل، وهذا عنصر أساسي في الخطة والإجراءات الأمنية الخاصة بنا.